قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا ) ان هذه الآية مفصلة و محكمة بخصوص الايمان بالدعوة و شروط و دواعي تصديقها ، و تبين شرط التصديق بالنقل . وهي ظاهر في ان المضمون و المعرفة الحقة في ذاتها - مستقلة عن كل شيء خارجي - المصدقة لما قبلها و لما هو خارجها من معارف حقة هو المعتبر في الايمان بالدعوة . كما انها تدل على النهي بالتشبث بالنقل الخاص و رفض النقل الخارجي بحجة الاكتفاء بالأول . و من خلال اطراف الدعوة و النقل و عدم تعرض الآية لشخصية الناقل تشير الى عدم الاعتبار بحال الناقل و انما الاعتبار بالمضمون و الدعوة ذاتها .
ان محورية القيمة المتنية للخبر ليس فقط مما يفرضه العقل بان الشرع نظام له دستور و روح و مقاصد و رحى و قطب تدور حوله باقي اجزائه و انظمته ، و ان كل ما يخالف تلك الروح و المقاصد لا يؤخذ به . فالشرع نظام واضح المعالم فيه معارف ثابتة قطعية لا يصح مخالفتها ،و الاخبار الظنية مهما كانت درجة الاطمئنان بصدورها فانها خاضعة فيه للتقييم المتني كما هو حال اي نظام معرفي اختصاصي يحتكم الى عمومات وقواعد ثابتة ظاهرة هي دستور النظام و عموده وعلى ذلك ظاهر الاخبار المستفيضة بل المعارف الشرعية الثابتة . و من الجلي جدا ان في الشريعة معارف ثابتة لا يصح قبول ما يخالفها ، و يكون المخالف لها مشكلا ضعيفا و غير المخالف قويا بل ان القرآن و السنة قد جاءت بذلك بشكل لا يقبل الشك .
ان معيار المصدقية و الحقية في الدعوة بذاتها مستقلة و مركزية ذلك في الايمان و القبول ظاهر في الكتاب العزيز قال تعالى (وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) فهنا جعلت الدعوة للايمان بسبب ان الدعوة مصدقة و موافقة لما عند المدعوين . و كذلك قوله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ) و قوله تعالى (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) و قوله تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) و قال تعالى (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ ) هذه الآية تشير الى ان مصدر الايمان كون المسموع هدى بشكل مطلق من دون نظر الى حالة الناقل . و ان قوله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ) يشير الى ان المذهبية باطلة اذ نهى القران و ذم التعذر بالتشبث بالخاص و امر بالايمان بالهدى .و قوله تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) يشعر بل هو ظاهر بان المصدقية شرط في الكتاب و الحق فيه . بل ان ظاهر القرآن كون المصدقية هي الداعي و المعتبر لتصديق القائل بدعوة قال تعالى (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) . بل ان النهي قد ورد صريحا في عدم جواز رد الدعوة المصدقة بما عند المدعو قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ) .كما ان الله تعالى قد وصف الدعوات التي ليس لها مصدق و التي تكون عن الهوى بالظن الذي لا يصح اتباعه قال تعالى (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ) لاحظ كيف ان القران بين كون فقدان السلطان من الله انه مما تهوى الانفس و اسقط تلك المعرفة عن الاعتبار بذلك ، و من الظاهر ان ذلك بغض النظر عن القائل . و يشعر بذلك نفي العلم عن المعرفة الظنية التي لا تتسم بالمصدقية قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (*) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) فان العلم المفقود هنا و ان كان هو الاخبار بطريق علمي الا ان من ضمنه كما عرفت ان يكون مصدقا بدليل الاشارة الى ان ذلك ظن ، و لو انه كان مصدقا لخرج عن هذه الدائرة . اذن المصدقية في الدعوة و الداعي اليها هي المعتبر الحق و الداعي للايمان بها ، و ان رد الدعوة المصدقة بما عند المدعو منهي عنه و مذموم قرآنيا .
و يؤيد كل ما تقدم ان الله تعالى جعل الصدق و الحق شرط في المعرفة العلمية و وجه الايمان بالدعوة واتباعها ، و ان الواجب اتباع الصدق و الحق بعلاماته الذاتية بغض النظر عن طريق نقله و وصوله قال تعالى ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (*) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) فلاحظ كيف جعل الله تعالى الصدق و الواقعية مصدر المعرفة و صفة العلم و ان غيره هو الظن قال تعالى (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ) ان الامر هنا وجه الى الكافرين كما هو ظاهر و مثله قوله تعالى (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) فان المركزية هنا لكون المعرفة حقة بغض النظر عن نقالها . و قال تعالى ( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (*) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ) و الآية ظاهرة في جعل الحق و المضمون الموافق له المصدر و الداعي الاساسي لقبول الدعوة لا غير . ان هذا التعريف العلمي للظن بانه ما خالف الصدق و ان العلم ما كان صدقا يبطل دعوى ان قوة السند تقلل من ظنية الخبر و ان الاختلاف بينها في درجة الظنية . و آيات الحق دالة على كون مصدر الايمان هو ما في المتن و المضمون من معرفة مطلقا من دون الاشارة الى القائل في هذا المقام قال تعالى (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) و قال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ) و قال تعالى (شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) و قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ) و قال تعالى (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) بل لا تجد تأكيدا على اعتبار المضمون و الدعوة مثل قوله تعالى ( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) . و على ذلك جاءت الاخبار المستفيضة المصدقة بذلك و الموافقة لذلك . فعن أيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كل شيء مردود إلى كتاب الله والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف. و عن أيوب، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله: إذا حدثتم عني بالحديث فانحلوني أهنأه وأسهله وأرشده، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن لم يوافق كتاب الله فلم أقله. و عن ابن أبي يعفور، قال علي: وحدثني الحسين بن أبي العلاء أنه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن اختلاف يرويه من يثق به ، فقال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتموه له شاهد من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه واله، وإلا فالذي جاءكم به أولى . وعن على أبي الحسن الرضا عليه السلام انه قال لا تقبلوا علينا خلاف القرآن فإنا إن تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة، إنا عن الله وعن رسوله نحدث، ولا نقول: قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا، إن كلام آخرنا مثل كلام أولنا، وكلام أولنا مصداق لكلام آخرنا، وإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه عليه وقولوا: أنت أعلم و ما جئت به، فإن مع كل قول منا حقيقة وعليه نور، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك قول الشيطان.
من هنا يصح القول ان القرآن الكريم ظاهر في ان الاعتبار بخصائص المضمون المنقول بالمصدقية و المطابقة للحق بعلامات ذاتية ، فيصح نسبة النقل الى النبي صلى الله عليه و اله بتحقيق صفات المصدقية و الموافقة للقران و السنة الثابتة ، و لا وجه للتصرف بالنقل و لا ادخال امور اخرى لا شاهد عليها . فكل ما ينسب الى النبي صلى الله عليه و اله وكان مصدقا بالقران و السنة و عليه شاهد منهما يكون معتبرا و يجب التسليم به و لا يصح رده او التصرف فيه و كل ما تقدم من آيات دالة على ذلك و الروايات مستفيضة في ذلك بينا بعضها .